الى بدر شاكر السياب الذي قال "بغداد مبغى كبير"
في ليلة حالكة من عام 1938، كانت العاصمة العراقيّة معرّضة للطوفان بسبب ارتفاع منسوب المياه في نهر دجلة. في حالات كهذه، تستعين الشرطة بالمارّة من أجل حثّهم على إنقاذ مدينتهم. إلا أن شوارع المدينة كانت خالية بسبب البرد القارس وتأخر الوقت، فسارع عدنان محيي الدين، معاون الشرطة، إلى التفكير بمنطقة قريبة من النهر ومن "السدة"، مكمن الفيضان، لا تنام بسبب طبيعتها. إنها منطقة "الكلجيّة"، الحاضنة الرئيسة لبيوت الدعارة في جانب الرصافة من بغداد آنذاك. ذهبت سيارات الشرطة إلى "الكلجيّة" ودعت الجميع هناك إلى العمل على إنقاذ العاصمة من خطر الفيضان. لبّى الطلب كل من كان سهراناً في تلك الليلة. أخذت السيارات عاملات الجنس والقوادين وزبائنهم إلى السدّة.
عبأ الرجال الرمل بالأكياس، وأخذت النساء بحملها لإيقاف تدفق المياه، وخلال ساعات كانت العاصمة بمأمن من ثورة النهر. أعادت سيارات الشرطة الجميع إلى مساكنهم، وفي اليوم التالي وجّه أمين عاصمة بغداد (الدائرة المسؤولة عن 14 بلدية) رسالة شكرٍ وتقدير إلى منطقة "الكلجيّة".
وبعد مرور 76 عاماً على هذه الحادثة، اجتاحت العاصمة خلالها طوفانات من الدم والانقلابات العسكرية والحروب، وُجِدت سيارة في حزيران/يونيو الماضي وسط بغداد فاغرة أبوابها، وفيها خمس نساء مضرّجات بدمائهن وقد اخترق الرصاص أجسادهن، بعدها بأسابيع، في 12 تموز/ يوليو الجاري، دخل مسلحون مبغى وقتلوا كل من فيه.
البِغاء بين احتلالين
درج البغاء في بغداد إبان الاحتلال البريطاني للعراق العام 1918، فانتشرت بيوت الدعارة في جانبي العاصمة، الكرخ والرصافة. وكان ولاة بغداد عند مغادرتهم مناصبهم يرحِّلون حريم "الحرملك" إلى تلك البيوت، إذ غالباً ما كانت مغادرتهم تترك "نساءهم" دون إعالة. وسمح العهد العثماني بممارسة البغاء العلني، معتمداً بذلك على التشريعات الأوروبيّة ولا سيما الفرنسية. وحين دخل الانكليز شارع الرشيد لم يتعبوا أنفسهم بأكثر من تنظيم الأمور عبر وضع لافتة في بداية شارع الرشيد من جهة "الباب المعظم" حملت كلمة وحيدة "Brothel".
كانت تلك منطقة "الكلجيّة" ذاتها التي حمت نساؤها بغداد من الطوفان. ومن أجل ألا يتسلل الجنود الانكليز إلى تلك البيوت، وضعت الإدارة البريطانية حرّاساً على رأس المنطقة التي ليس لها سوى مدخل وحيد. وبحسب د. معتز محيي عبد الحميد، الذي بحث في البغاء في هذه المرحلة بمقالات عدّة، فإن بائعات الجنس خضعن لسلطة الاحتلال، كما خضع البلد كلّه، فأصبح لديهن إجازة بممارسة "مهنة الدعارة"، وأُلزمن بإجراء فحوص طبيّة دورية حتى لا ينقلن الأمراض. وكان كل "قوّاد" يغرّم إذا ما قام بـ"تشغيل" إمرأة ليس لديها إجازة ولم تخضع لفحص طبيٍّ. وإبان تلك الحقبة، نشأت في أكبر المدن العراقيّة الثلاث، بغداد والبصرة والموصل، ثلاثة مباغٍ منظّمة، لديها "زبائن" كثر يرتادونها.
بغاء قانوني!
بعد اندلاع الحرب العالميّة الثانية، زار المستر ويلكي مبعوث الرئيس الأميركي بغداد. ولم يفوّت المندوب بالطبع السير في بغداد "المشتهاة" للإدارة الأميركية التي كانت تسعى إلى التوسّع آنذاك.
وكان برفقته نوري السعيد وزير الخارجيّة. وينقل المؤرخون أن المندوب أعجب بمنطقة المبغى في شارع الرشيد، إذ جلس في أحد المقاهي القريبة منه وتحدّث إلى القوادين، الذين كان نوري السعيد يعرف الكثير منهم بسبب قربه من الشارع. ونقل ويلكي في التقرير الذي سلّمه إلى حكومته أن سعيد جعله يعيش "في ليلة من ألف ليلة وليلة"، بعد أن أقام له حفلة موسيقية "انقلبت إلى معرض من الفتيات الراقصات العربيات"! وفي العام 1943، بعد أن نظّمت الملكيّة نفسها عبر إصدار قوانين وتعيين حكومات، كان لا بد للبغاء أن ينظّم كذلك، فصدر نظام تفتيش بيوت الدعارة ومراقبة البغايا لمكافحة الأمراض الزهرية، والذي حمل رقم "33"، ووقّع عليه الوصي عبد الإله وجميع أفراد الحكومة، وحدّد بالتفصيل مهنة البغاء. فحظر على الرجال الذين تقلّ أعمارهم عن عشرين عاماً التردّد على تلك الاماكن، كما منع من هنَّ دون هذه السن من ممارسة البغاء. واستتباباً للأمن، منع النظام دخول "سكران أو استعمال المسكّرات أو المخدرات" أو" فتح الملاهي أو المقاهي" في المبغى، كما منع حمل الأسلحة النارية أو الجارحة أو المبيت ليلاً"، وحدّد إلى جانب ذلك أوقاتاً لعمل المباغِي "بين الساعة الثالثة بعد الظهر حتى الساعة الحادية عشرة ليلاً".ولم يهمل النظام النساء أنفسهنَّ بل أخذ بعين ظروفهنَّ الحياتية، فحظر على البغيّ حضانة مولودها الذي يتجاوز سنته الثالثة، وعليها إيداعه مؤسسة الأيتام أو الملاجئ الحكومية.
ولكنه، وإلى جانب ذلك أجاز للبغي إذا ما رغبت بـ"التوبة" مراجعة "الوزير أو الموظف الإداري بعريضة تطلب فيها رفع القيود الموضوعة عليها بمقتضى أحكام هذا النظام وإيجاد عمل شريف لها". ولم يأتِ تنظيم البِغاء في العراق، وفي العاصمة بغداد على وجه التحديد، اعتباطياً، إذ بحسب كتيِّب يجمع إحصائيات أجرتها جمعية الخدمات الدينية والاجتماعية في العام 1939، تجاوز زوّار المباغي المليون زائر، بمعدّل 87472 في الشهر، و2915 فرداً في اليوم، وبمعدّل عمل يومي لا يتجاوز 12 ساعة. واصطلحت تسمية "الطبّة" أو "الخشّة" بدخولية تأرجحت بين الـ50 و الـ250 فلساً، تحددها سنّ بائعة الجنس و/أو "شطارتها".
تحريم البِغاء علناً وانتشاره سراً
بدأت تتعالى في خمسينيات القرن الماضي بعض الأصوات من أجل هدم المباغي المرخصة في أكبر مدن العراق، ومن بين حزمة من الاتفاقيات التي وقّعها العراق آنذاك، صادق العام 1955 على اتفاقية حظر الاتجار بالأشخاص واستغلال دعارة الغير، التي أقرتها الأمم المتحدة سنة 1949. وفي العام 1956 صدر قانون "مكافحة البغاء"، وعلى أثره هدمت المباغي في محافظتي بغداد والبصرة، وفي العام 1958 عدّل القانون مجدداً، وأصبح أكثر صرامة، وبذلك عاد البغاء ليدخل مرحلته السريّة. وعقب إمساك البعث بجميع مفاصل الدولة والتفرّد بالحكم، أصدر صدام حسين العام 1988 قانوناً جديداً لمكافحة البغاء يسجن بموجبه "السمسار" بالحبس مدّة لا تزيد على 7 أعوام، وألزم القانون وزارة العمل والشؤون الاجتماعية بإعداد دور الإصلاح وتوجيه وتأهيل النساء "بهدف إصلاحهن وتمكينهن من كسب عيشهن بوسيلة شريفة"، إلا أنه بطبيعة الحال لم تقم الحكومة باستحداث أي برامج أو دور تأهيل بسبب انشغالها بجبهات حروبها المتعدّدة.
ومع حلول عقد التسعينيات، وانعزال العراق عن العالم أجمع، وتحوّله الى محميّة لصدّام حسين والمقربين منه، قرّر "القائد الضرورة" أثناء اجتماع بمجلس قيادة الثورة، الالتزام بـ"الخط الإيماني" وتفضيله على "الخط الإيديولوجي القومي"، وأطلق بعدها "الحملة الإيمانية" التي ضيّقت على الحريّات العامّة، وتم بعدها تشكيل "فدائيي صدّام" من قبل نجله عدي والتي قادت إلى الكثير من المجازر، ومنها ذبح "العاهرات" أمام بيوتهن، بينما كانت مزارع عدي ووزراء حكومة والده تغص بالراقصات الغجريات وببائعات الجنس. وبالرغم من كل ما تعرّضت له المباغِي من بطش وتنكيل، إلا أنها كانت تعيد نفسها وتتجمّع في مناطق مختلفة من العاصمة، وفي المحافظات العراقيّة الأخرى.
ديموقراطيّة الفئات الهشّة
بقيت المناطق التي انتشرت فيها بيوت "الدعارة" معروفة رغم تحريمها، وأهمها الواقعة على أطراف غرب بغداد في منطقة أبو غريب، والمنطقة الواقعة شرق العاصمة في منطقة الكمالية. ولم تكن هاتان بمنأى عن الفوضى التي عمّت العراق برمته بعد احتلال بغداد في نيسان/ ابريل العام 2003، إذ بدأت تشهد تهجيراً لأصحاب دور البغاء بعد مرور عام على الاحتلال. إلا أن نشوب الاقتتال الطائفي العام 2006، أدى الى مقتل الكثير من العاملات في الجنس على يد الميليشيات، الأمر الذي اضطرّهن الى الفرار نحو عواصم مثل دمشق وعمّان ودبي.
مع نهاية الاقتتال الطائفي أواخر العام 2008، دبّت الحياة في أوصال بيوت الدعارة من جديد، إلا أن أنفاسها كانت متقطعة كسائر حيوات العراقيين، إذ كانت معرضة لخطر دائم وتدفع النسوة العاملات فيها حياتهنَّ جزاء. فكانت المفارقة أن قُتِلت 15 عاملة جنس في بغداد بحملة منظّمة، بالتزامن مع "اليوم العالمي لبائعات الجنس" في الثاني من حزيران/ يونيو، وهو يوم رمزي لإحياء ذكرى احتلال 100 بائعة جنس كنيسة في فرنسا العام 1975 في إطار مظاهرات احتجاجية على التمييز ضدّهن. لم يسلط الإعلام الضوء على الحادث الدموي ومرَّ الحادث بصمت.
أما الحكومة العراقية فترى في التقصّي عن قتل تلك النساء ترفاً، فتقيّد جميع الجرائم المشابهة ضدّ مجهول، تماماً كما فعلت مع حوادث قتل بائعي الخمر أو المثليين أو الفئات المحسوبة على الأقليات عامة. وفي غضون شهر تكررت الحادثة، إذ دخل مسلحون في 12 تموز / يوليو الجاري إلى بنايتين تشتهران بإيوائهما لبيوت دعارة، وفتحوا النار على الجميع، الأمر الذي أدى إلى مقتل نحو 29 مدنياً، وجرح حوالي 14 فرداً. وكالعادة، لم تعِر وسائل الإعلام هذا الأمر أيّة أهميّة، لاسيما مع وجود جبهات قتال عديدة يخوض فيها الجيش العراقي اشتباكات مع جماعات مسلّحة. إلا أن سؤالاً لا بد أن يتبادر إلى الذهن: من أين يأتي هؤلاء القتلة؟ وإذا ما قاموا بقتل عاملات الجنس، فما الذي يمنعهم من التعرّض لأي فرد أعزل آخر لا يروق لهم؟ في المحصّلة، تمثّل عاملات الجنس ـ أسوة بكل المحسوبين على الفئات الهشّة في المجتمع ـ الخاصرة الرخوة للعنف، إذ يسهل اصطيادهن بسبب تجمّعهن في أماكن محدّدة، بالإَضافة إلى عدم وجود غطاء لهن كالذي تتمتّع به باقي فئات المجتمع الأخرى، مثل العشيرة والطائفة، فضلاً عن التشهير المستمّر بهن حتّى من قبل مرتادي بيوتهن أنفسهم. هكذا، لا بد لكل حملة عنف أن تطال قسماً منهن، ولا بد أن يكنّ على رأس قائمة الضحايا... على الرغم من أن أغلب المتنفذين لهم "سيرة" مع هذه البيوت، بين تورّط أكثر من وزير ومدير عام حالي بفضيحة مع عاملة جنس أو حماية بعض قادة الميليشيات لمباغٍ كانوا يتردّدون عليها... جاعلينها "حرملك" لهم!
[يعاد نشره ضمن اتفاقية شراكة و تعاون بين جدلية و "السفير العربي"]